أيام معلومات ((الحج))
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
الحج دورة تربوية إبراهيمية التخطيط، محمديّة التطبيق، مهدوية الغاية، فيها تجتمع كل أسرار العبادات، في محتوى تربوي بليغ يُعيد صياغة الشخصية الانسانية بحيث يعود الحاج منها كيوم ولدته أمه، نقيَّ الفطرة، سليمَ القلب، طاهرَ الجوارح، فإذا بالحياة ما قبل الحج مختلفةٌ عما بعده تجلياً لحقيقة قوله تعالى: ﴿.. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..﴾الحج 28.
في هذا السياق كانت هذه الأسطر، دليلاً توجيهياً مختصرا لمن وفق للذهاب في رحلة الحج الابراهيمي، علّه يكون هادياً ومعيناً على تحمل أعباء ومتطلبات هذا السفر الروحي الذي يحمل في طياته الكثير من الفضائل والمشاق في آن والتي تتكفل بإعادة صياغة جوهر الكائن الانساني كما أشار الى ذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " رهبانيّةُ أمتي الجهادُ والحجّ ".
في الطريق إلى الحج
ينبغي على الحاج قبل التوجه الى بيت الله الحرام الالتفات الى جملة أمور منها:
تصحيح النية: بأن يجعل العبد نيته الواقعية بالحج نقية من الشوائب، قاصداً امتثال أمر المولى تعالى فحسب.
تأكيد التوبة والوصيّة: بأن يهيأ نفسه بالإتيان بتوبة جامعة كاملة بكل مقدماتها، كرد الحقوق المالية: من الخمس والمظالم والكفارات.. أو غير المالية: كالاستحلال من الغيبة، والإيذاء، وهتك الأعراض، وسائر الجنايات.. وكذلك الاستحلال من والديه ومن هما مصدر وجوده.. ثم الوصية بمحضر الشهود من دون تضييق على الوصّي في كيفية صرف ثلث أمواله، لئلا يوقع مسلماً في حرجٍ بعد وفاته.. وبعد هذا كُلِّه يوكل أمر أهله وعياله إلى الكفيل المتعال، فإنه خير معين ونعم وكيل.
تفريغ القلب: أن يتحاشى أسباب انشغال القلب في هذا السفر العظيم، لئلا يُذْهَلَ عن محبوبه في حركاته وسكناته، سواء كان سبب ذلك الذهول شخصاً أو مالاً..
الإنفاق: وذلك بالسعي في أن تكون نفقة الحج من المال الحلال.. وأن يوسّع على نفسه وغيره في هذا الطريق، إذ أن دِرهَماً يُنفقه في الحج - كما ورد في الحديث - بسبعين درهما..
حسن الخلق: أن يُحسّن خُلقه في رحلة الحج ويتجنب الفحش من القول، فإن حسْن الخلق لا ينحصر في كفّ الأذى عن الغير، بل في تحمل الأذى منه، بل في خفض الجناح لمن يؤذيه.
حسن العشرة: أن يسعى في قضاء حوائج من معه من المؤمنين، وتعليمهم أحكام الشريعة، والدعوة إلى الحق، وتعظيم الشعائر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حسن التوكل: أن لا يتحرك من منـزله إلا وقد فوّض أمر نفسه وأهله ورفقته وما معه إلى الله تعالى، وأودع كل ذلك أمانة لدى الحفيظ العليم..
بين جنبات البيت
ينبغي للحاج أن يعلم حقيقة الشعائر التي يؤديها في هذه الرحلة العبادية ليتسنى له التزود من بركات الوصول الى مقاصد الحج الواقعية وذلك من خلال مراعاة ما يلي:
في الميقات
إذا دخل الحاج الميقات، ولبس ثوبي الاحرام، فليتذكر عند لبسها لبس الكفن ولفه فيه، وأنه سيلقى الله ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله إلا بهيئة وزي يخالف عادته، فكذلك لا يلقى الله بعد الموت إلا في زي يخالف زي الدنيا وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب، إذ ليس مخيطا، كما أن الكفن أيضا ليس مخيطا. وإذا أحرم وتلبى، فليعلم أن الاحرام والتلبية إجابة نداء الله، فليرج أن يكون مقبولا، وليخش أن يكون مردوداً، فيقال: لا لبيك ولا سعديك! فليكن بين الخوف والرجاء مترددا.
عند دخول مكـة
وينبغي أن يتذكر الحاج عند دخوله مكة، إنه قد انتهى إلى حرم من دخله كان آمنا، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله، وليضطرب قلبه من ألا يكون أهلا للقرب والقبول.
وإذا وقع البصر على البيت، فليُحضِر في قلبه عظمته، كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه، وليَرْجُ أن يرزقه لقاءَه كما رزقه لقاء بيتِهِ، وليشكر الله على تبليغه إياه إلى بيته، وإلحاقه إياه بزمرة الوافدين إليه.
عند الطواف
وينبغي عند الطواف أن يمتلئ قلب الحاج من التعظيم والمحبة والخوف والرجاء ويعلم أنه في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الطائفين حول العرش، وليعلم أن المقصود طواف قلبه بذكر رب البيت، دون مجرد طواف جسمه بالبيت فليبتدأ الذكر به ويختم به، كما يبتدأ الطواف من البيت ويختم بالبيت.
عند استلام الحجر
وينبغي أن يتذكر الحاج عند استلام الحجر الأسود، أنه بمنزلة يمين الله في أرضه، وفيه مواثيق العباد. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استلموا الركن، فإنه يمين الله في خلقه، يصافح بها خلقه مصافحة العبد أو الدخيل، ويشهد لمن استلمه بالموافاة".
في السعي
السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين الرحمة، وليتذكر الحاج عند تردده التردد بين الكفتين، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، مردداً بين العذاب والغفران.
عند الوقوف بعرفات
وأما الوقوف بعرفات، فليتذكر الحاج بما يرى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، واتباع الفرق أئمتهم في التردد على المشاعر عرصات يوم القيامة وأهوالها، وانتشار الخلائق فيها حيارى، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة عليهم السلام، واقتفاء كل أمة نبيهم، وطمعهم في شفاعته لهم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول. وإذا تذكر ذلك، فليتضرع إلى الله تعالى ويبتهل إليه، ليقبل حجه ويحشره في زمرة الفائزين المرحومين.
في المشعر
وإذا فاض الحاج من عرفات ودخل المشعر، فليــتذكر عند دخوله فيه، إن الله سبحانه قد أذن له في الدخول حرمه بعد أن كان خارجاً عنه، إذ المشعر من جمــــلة الحرم، وعــرفات خارجة عنه، فليـتفاءل من دخول الحرم بعد خروجه عنه، بأن الله سبحانه قربه إليه وكساه خلع القبول، وأجاره وآمنه من العذاب والبعد وجعله من أهل الجنة والقرب.
عند الرمي والذبح
وإذا ورد الحاج منى، وتوجه إلى رمي الجمار، فليقصد به الانقياد والامتثال، إظهاراً للرق والعبودية، وتشبهاً بالخليل الجليل عليه السلام، إذ امتثال أمر الله تعالى تعظيماً له يقصم ظهر ابليس اللعين ويُرغم به أنفه.
وإذا ذبح الهدي، فليستحضر أن الذبح إشارة إلى أنه بسبب الحج قد غلب الشيطان والنفس الأمارة وقتلهما، وبذلك استحق الرحمة والغفران.
لوعــةُ الوداع
أيها الحاج.. إذا أردت أن تودّع الحرم فكن كفاقد من يعزّ عليك فقدُه، بحيث يُعلم ذلك من حالك، فكن مشوش البال منكسر الفؤاد.. وليكن بناؤك على الرجوع في أول زمان ممكن.. فهكذا كان عزم إبراهيم الخليل عليه السلام لما ترك إسماعيل وهاجر.. وعليك بمراعاة أدب المضيف عند وداعه، لئلا يحرمك العودة إلى بيته أبد الآبدين، فإنه وإن كان سريعاً في رضاه، إلا أنه ينبغي مراعاة الأدب بين يديه مهما أمكن.
وليكن لسان حالك قول الولهان المحترق أسىً على فقدان حبيبه:
وداعاً أيها الحَرَمُ وداعاً والجوى ضرمُ
ولا تغب عن بالك أبداً في سائر محطات رحلتك الى بيت الله الحرام توجيهات الإمام الصادق عليه السلام لكل حاج: إذا أردت الحج..
فجرد قلبك لله عز وجل، من قبل عزمك، من كل شُغلٍ شاغلٍ وحَجب كل حاجب.
وفوض أموركَ كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهرُ من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، وودع الدنيا والراحة والخلق.
وأخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً، فإن من ادعى رضا الله، واعتمد على شئ ما سواه، صيره عليه عدواً ووبالاً، ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلة ولا لأحد إلا بعصمة الله تعالى وتوفيقه.
واستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض الله تعالى وسنن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما يجب عليك من الأدب، والاحتمال، والصبر، والشكر، والشفقة، والسخاوة، وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
ثم أغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع.
وأحرم من كل شئ يمنعك عن ذكر الله عز وجل ويحجبك عن طاعته.
ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عز وجل في دعوتك له، متمسكا بالعروة الوثقى.
وطُف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
وهرول هرولة فرار من هواك، وتبرأ من جميع حولك وقوتك.
واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى، ولا تتمنَ ما لا يحل لك ولا تستحقه.
واعترف بالخطأ بالعرفات.
وجدد عهدك عند الله تعالى بوحدانيته، وتقرب إليه، واتقه بمزدلفة.
واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل.
واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة.
وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات.
وأحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك.
وأدخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخول الحرم.
وزر البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفته وجلاله.
واستلم الحجر رضى بقسمته وخضوعاً لعظمته.
وودع ما سواه بطواف الوداع.
وصَفِّ روحك وسرك للقاء الله تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصفا.
وكن ذا مرة من الله بفناء أوصافك عند المروة.
واستقم على شروط حجتك، ووفاء عهدك الذي عاهدت ربك، وأوجبت له إلى يوم القيامة.. [right]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
الحج دورة تربوية إبراهيمية التخطيط، محمديّة التطبيق، مهدوية الغاية، فيها تجتمع كل أسرار العبادات، في محتوى تربوي بليغ يُعيد صياغة الشخصية الانسانية بحيث يعود الحاج منها كيوم ولدته أمه، نقيَّ الفطرة، سليمَ القلب، طاهرَ الجوارح، فإذا بالحياة ما قبل الحج مختلفةٌ عما بعده تجلياً لحقيقة قوله تعالى: ﴿.. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..﴾الحج 28.
في هذا السياق كانت هذه الأسطر، دليلاً توجيهياً مختصرا لمن وفق للذهاب في رحلة الحج الابراهيمي، علّه يكون هادياً ومعيناً على تحمل أعباء ومتطلبات هذا السفر الروحي الذي يحمل في طياته الكثير من الفضائل والمشاق في آن والتي تتكفل بإعادة صياغة جوهر الكائن الانساني كما أشار الى ذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " رهبانيّةُ أمتي الجهادُ والحجّ ".
في الطريق إلى الحج
ينبغي على الحاج قبل التوجه الى بيت الله الحرام الالتفات الى جملة أمور منها:
تصحيح النية: بأن يجعل العبد نيته الواقعية بالحج نقية من الشوائب، قاصداً امتثال أمر المولى تعالى فحسب.
تأكيد التوبة والوصيّة: بأن يهيأ نفسه بالإتيان بتوبة جامعة كاملة بكل مقدماتها، كرد الحقوق المالية: من الخمس والمظالم والكفارات.. أو غير المالية: كالاستحلال من الغيبة، والإيذاء، وهتك الأعراض، وسائر الجنايات.. وكذلك الاستحلال من والديه ومن هما مصدر وجوده.. ثم الوصية بمحضر الشهود من دون تضييق على الوصّي في كيفية صرف ثلث أمواله، لئلا يوقع مسلماً في حرجٍ بعد وفاته.. وبعد هذا كُلِّه يوكل أمر أهله وعياله إلى الكفيل المتعال، فإنه خير معين ونعم وكيل.
تفريغ القلب: أن يتحاشى أسباب انشغال القلب في هذا السفر العظيم، لئلا يُذْهَلَ عن محبوبه في حركاته وسكناته، سواء كان سبب ذلك الذهول شخصاً أو مالاً..
الإنفاق: وذلك بالسعي في أن تكون نفقة الحج من المال الحلال.. وأن يوسّع على نفسه وغيره في هذا الطريق، إذ أن دِرهَماً يُنفقه في الحج - كما ورد في الحديث - بسبعين درهما..
حسن الخلق: أن يُحسّن خُلقه في رحلة الحج ويتجنب الفحش من القول، فإن حسْن الخلق لا ينحصر في كفّ الأذى عن الغير، بل في تحمل الأذى منه، بل في خفض الجناح لمن يؤذيه.
حسن العشرة: أن يسعى في قضاء حوائج من معه من المؤمنين، وتعليمهم أحكام الشريعة، والدعوة إلى الحق، وتعظيم الشعائر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حسن التوكل: أن لا يتحرك من منـزله إلا وقد فوّض أمر نفسه وأهله ورفقته وما معه إلى الله تعالى، وأودع كل ذلك أمانة لدى الحفيظ العليم..
بين جنبات البيت
ينبغي للحاج أن يعلم حقيقة الشعائر التي يؤديها في هذه الرحلة العبادية ليتسنى له التزود من بركات الوصول الى مقاصد الحج الواقعية وذلك من خلال مراعاة ما يلي:
في الميقات
إذا دخل الحاج الميقات، ولبس ثوبي الاحرام، فليتذكر عند لبسها لبس الكفن ولفه فيه، وأنه سيلقى الله ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله إلا بهيئة وزي يخالف عادته، فكذلك لا يلقى الله بعد الموت إلا في زي يخالف زي الدنيا وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب، إذ ليس مخيطا، كما أن الكفن أيضا ليس مخيطا. وإذا أحرم وتلبى، فليعلم أن الاحرام والتلبية إجابة نداء الله، فليرج أن يكون مقبولا، وليخش أن يكون مردوداً، فيقال: لا لبيك ولا سعديك! فليكن بين الخوف والرجاء مترددا.
عند دخول مكـة
وينبغي أن يتذكر الحاج عند دخوله مكة، إنه قد انتهى إلى حرم من دخله كان آمنا، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله، وليضطرب قلبه من ألا يكون أهلا للقرب والقبول.
وإذا وقع البصر على البيت، فليُحضِر في قلبه عظمته، كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه، وليَرْجُ أن يرزقه لقاءَه كما رزقه لقاء بيتِهِ، وليشكر الله على تبليغه إياه إلى بيته، وإلحاقه إياه بزمرة الوافدين إليه.
عند الطواف
وينبغي عند الطواف أن يمتلئ قلب الحاج من التعظيم والمحبة والخوف والرجاء ويعلم أنه في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الطائفين حول العرش، وليعلم أن المقصود طواف قلبه بذكر رب البيت، دون مجرد طواف جسمه بالبيت فليبتدأ الذكر به ويختم به، كما يبتدأ الطواف من البيت ويختم بالبيت.
عند استلام الحجر
وينبغي أن يتذكر الحاج عند استلام الحجر الأسود، أنه بمنزلة يمين الله في أرضه، وفيه مواثيق العباد. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استلموا الركن، فإنه يمين الله في خلقه، يصافح بها خلقه مصافحة العبد أو الدخيل، ويشهد لمن استلمه بالموافاة".
في السعي
السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين الرحمة، وليتذكر الحاج عند تردده التردد بين الكفتين، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، مردداً بين العذاب والغفران.
عند الوقوف بعرفات
وأما الوقوف بعرفات، فليتذكر الحاج بما يرى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، واتباع الفرق أئمتهم في التردد على المشاعر عرصات يوم القيامة وأهوالها، وانتشار الخلائق فيها حيارى، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة عليهم السلام، واقتفاء كل أمة نبيهم، وطمعهم في شفاعته لهم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول. وإذا تذكر ذلك، فليتضرع إلى الله تعالى ويبتهل إليه، ليقبل حجه ويحشره في زمرة الفائزين المرحومين.
في المشعر
وإذا فاض الحاج من عرفات ودخل المشعر، فليــتذكر عند دخوله فيه، إن الله سبحانه قد أذن له في الدخول حرمه بعد أن كان خارجاً عنه، إذ المشعر من جمــــلة الحرم، وعــرفات خارجة عنه، فليـتفاءل من دخول الحرم بعد خروجه عنه، بأن الله سبحانه قربه إليه وكساه خلع القبول، وأجاره وآمنه من العذاب والبعد وجعله من أهل الجنة والقرب.
عند الرمي والذبح
وإذا ورد الحاج منى، وتوجه إلى رمي الجمار، فليقصد به الانقياد والامتثال، إظهاراً للرق والعبودية، وتشبهاً بالخليل الجليل عليه السلام، إذ امتثال أمر الله تعالى تعظيماً له يقصم ظهر ابليس اللعين ويُرغم به أنفه.
وإذا ذبح الهدي، فليستحضر أن الذبح إشارة إلى أنه بسبب الحج قد غلب الشيطان والنفس الأمارة وقتلهما، وبذلك استحق الرحمة والغفران.
لوعــةُ الوداع
أيها الحاج.. إذا أردت أن تودّع الحرم فكن كفاقد من يعزّ عليك فقدُه، بحيث يُعلم ذلك من حالك، فكن مشوش البال منكسر الفؤاد.. وليكن بناؤك على الرجوع في أول زمان ممكن.. فهكذا كان عزم إبراهيم الخليل عليه السلام لما ترك إسماعيل وهاجر.. وعليك بمراعاة أدب المضيف عند وداعه، لئلا يحرمك العودة إلى بيته أبد الآبدين، فإنه وإن كان سريعاً في رضاه، إلا أنه ينبغي مراعاة الأدب بين يديه مهما أمكن.
وليكن لسان حالك قول الولهان المحترق أسىً على فقدان حبيبه:
وداعاً أيها الحَرَمُ وداعاً والجوى ضرمُ
ولا تغب عن بالك أبداً في سائر محطات رحلتك الى بيت الله الحرام توجيهات الإمام الصادق عليه السلام لكل حاج: إذا أردت الحج..
فجرد قلبك لله عز وجل، من قبل عزمك، من كل شُغلٍ شاغلٍ وحَجب كل حاجب.
وفوض أموركَ كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهرُ من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، وودع الدنيا والراحة والخلق.
وأخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً، فإن من ادعى رضا الله، واعتمد على شئ ما سواه، صيره عليه عدواً ووبالاً، ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلة ولا لأحد إلا بعصمة الله تعالى وتوفيقه.
واستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض الله تعالى وسنن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما يجب عليك من الأدب، والاحتمال، والصبر، والشكر، والشفقة، والسخاوة، وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
ثم أغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع.
وأحرم من كل شئ يمنعك عن ذكر الله عز وجل ويحجبك عن طاعته.
ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عز وجل في دعوتك له، متمسكا بالعروة الوثقى.
وطُف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
وهرول هرولة فرار من هواك، وتبرأ من جميع حولك وقوتك.
واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى، ولا تتمنَ ما لا يحل لك ولا تستحقه.
واعترف بالخطأ بالعرفات.
وجدد عهدك عند الله تعالى بوحدانيته، وتقرب إليه، واتقه بمزدلفة.
واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل.
واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة.
وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات.
وأحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك.
وأدخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخول الحرم.
وزر البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفته وجلاله.
واستلم الحجر رضى بقسمته وخضوعاً لعظمته.
وودع ما سواه بطواف الوداع.
وصَفِّ روحك وسرك للقاء الله تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصفا.
وكن ذا مرة من الله بفناء أوصافك عند المروة.
واستقم على شروط حجتك، ووفاء عهدك الذي عاهدت ربك، وأوجبت له إلى يوم القيامة.. [right]