هو العليم
نرى من المناسب أن نذكر وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام في آخر ساعات عمره لأولاده وسائر شيعته إلى يوم القيامة فيما يتعلّق بالحجّ,حيث توجّه إلى ابنيه الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السّلام قائلاً:
أوصيكما بتقوى الله... والله الله في بيت ربّكم لا تُخلوه ما بقيتم فإنّه إن تُرك لم تُناظروا.
أي إنّكم إذا تركتم بيت ربّكم فسوف تُعدمون توفيق الله تعالى.
وهذه الوصيّة في هذه الحالة الخاصّة وبهذه المضامين والعبارات,تحتوي على نكات مهمّة جدّاً وتستحق التأمّل بها.
يجب التّوجه إلى أنّ وصيّة الإمام وتأكيده قد صدروا في وقت يعلم فيه قطعاً بأنّ زمام الحكومة بعده سوف ينحرف عن مسار الحقّ والصراط المستقيم,الذي هو صراط أئمّة الهدى عليهم السّلام,وعن حكومة العدل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم,وسينتهي إلى الطّواغيت وأئمّة الكفر والإلحاد,بني أميّة وبني مروان وبني العبّاس,وسيكون حكّام الاماكن المقدّسة وأرض الوحي من الظّلمة وأعداء الدين,وأنّ زمام أمور مكّة وبيت الله الحرام ستصير بعهدة هؤلاء الطّواغيت الذين سيضعون تمام قوّتهم في سبيل محاربة الحقّ والحقيقة وطمس المباني الإسلاميّة,وسيحرّفون الحق عن مساره,وسوف يعملون على حرف الإسلام عن صراطه المستقيم طريقه القويم إلى الظّلم والضّلال,ويُذيقون أولياء الدّين والأئمة المعصومين شتّى أنواع الظّلم والأذى,ويوصلون هؤلاء الأئمة وذرّيتهم وسائر شيعتهم وأصحابهم إلى الهلاك والفناء في غياهب سجونهم.
نعم!مع التوجّه إلى هذه الأمور, نرى تأكيد الإمام وإصراره على أداء مناسك الحجّ والذهاب إلى أرض الوحي, وهذا يعني أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام فرَّق بين حكم الظالمين وبين حكم الحجّ وبيت الله, وفصّل بين أداء مناسك الحجّ والوفود إلى بيت الوحي وبين استيلاء حكّام الجور وخونة الدين على الأماكن المباركة,حيث لم يقل الإمام:بما أنّ بيت الله الآن تحت سيطرة حكّام الجور كمعاوية ويزيد.. فالذهاب إلى هناك حرام والإبتعاد عنه واجب, بل إنّه جعل بمنتهى الصّراحة والدّقة حرم الأمن والأمان الإلهي بعيداً عن الإختلاف والصّراع وتصفية الحسابات, وأبقاه بعيداً عن سوء الإستفادة منه. من هنا قام سيّد شهداء التاريخ الإمام الحسين ابن علي صلوات الله وسلامه عليهما ,ومن منطلق الحفاظ على حرم الأمن الإلهي وصيانة مطاف المسلمين, بتبديل حجّه إلى عمرة مفردة وخروجه من مكّة, حتّى لا يشهد حرمُ الأمن الإلهي عُمي القلوب من أتباع بني اميّة يقومون باغتيال شخصيّةٍ كابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المسجد الحرام.
نعم! هذا هو طريق الأولياء المعصومين وزعماء الدّين الحنيف الصالحين ورافعي لواء التّوحيد ورؤساء مسيرة النجاح والفلاح.وكم هو حريٌّ بنا-نحن الامّة الإسلامية وأتباع هذا المنهج القويم والمدرسة المتينة-أن نتأسّى بالسيرة الحسنة للإمام الحسين ابن عليّ وأولاده الأمجاد ونجعلهم قدوتنا في ذلك,وان نبتعد عن تحميل النظرات الخاصّة والآراء الشخصيّة غير المتينة على مدرسة الوحي, وأن نعتمد فقط على التأسّي واتّباع القادة الصّادقين للدّين المبين,وهم الأئمة المعصومون عليهم الصلاة والسلام,بأن نجعل حرم الوحي المقدّس محلّاً للسلام وسكون الخاطر ومكاناً لطمانينة القلوب المستعدّة والنفوس المتهيّئة لتلقّي الأنوار الإلهيّة.وإن كان الإنسان-في غير هذه الصورة-بالخيار في أن يقوم بأيّ عمل يتوافق مع عقيدته ومذهبه ويعمل كلّ ما يراه صحيحاً بناءً على موازينه وضوابطه, ويمكنه أن ينتهز أيّ فرصة لإيجاد البلاء وتعكير الأجواء وإبراز الأهواء الشخصيّة وإعمال السليقة الفرديّة, وعندها سوف تتبدّل هذه الأرض المقدسة إلى مكان لتصفية النزاعات القلبيّة والقوميّة والدوليّة, وسينقلب ذاك الروح والهدوء والسكون إلى النزاع والبلاء والهرج والمرج وظهور الفتن والفساد, وسوف ينعدم مصداق الآية الشريفة:"جَعَلنا حَرَماً آمِنَاً" بشكل كلّي.
من الواضح كم هي الآثار والبركات التي يمكن أن تتركها مثل فريضة الحجّ-مع ملاحظة وجود كلّ هذه المؤكّدات- على تزكية النفس وتجلّي الأنوار الإلهيّة على قلب الزائر في أماكن مختلفة ومواقف متفاوتة, وكلّما عمل الحاجّ على إحضار قلبه وإخلاص نيّته وإكثار توجّهه, كلّما حصل أكثر على تنزّل مراتب الروح والانوار وظهور أسماء الله وصفاته العليا في قلبه وسرّه, وسيوجب ذلك سكون الخاطر وانشراح الصدر ومحو التعلقات والإرتكاز على محوريّة التوحيد والإقبال على لقاء الله تعالى بشكل أكثر.
وهذه المسألة مشهودة جداً في نصوص الأحاديث والأخبار وصريح الروايات المأثورة عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم اجمعين.