إن مدرسة الإمام الحسين هي هذه المدرسة، مدرسة عرفان الحق والمعرفة الواقعيّة للحق تعالى والعبوديّة المحضة أمام حضرة الحق والتخلّي عن كل قيد نفساني وتعلّق شهواني وهوى شيطاني، هي مدرسة التحرّر عن كل جمود وتعصّب جافٍّ وخالي عن المحتوى، وهي مدرسة أسر الهوى والهوس والأحاسيس والشائعات والتقليد الأعمى للمبادئ الفاسدة والأسس المفسدة، وهذا ما يظهر بوضوح في خطابات الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء. إن مدرسة سيد الشهداء هي مدرسة التعقّل لا التقليد الأعمى، ومدرسة التدبّر، ومدرسة الحريّة وتطوّر الفكر وانبساطه، ومدرسة التحقيق واختيار الأفضل، لا مدرسة العصا والسوط والضرب والشتم، تلك المدرسة هي مدرسة أبي بكر وعمر ويزيد ومعاوية.
إن مدرسة هذا الإمام هي الرجوع إلى العقل والعودة إلى الفطرة والوجدان، والخروج من وادي الجهل والضلالة والجمود والتصلّب والتخلّف العقلي، وهي المدرسة التي تتضمّن جميع الجهات الوجوديّة للإنسان- الدنيويّة والأخرويّة-
وحيثيّاته الظاهريّة والباطنيّة والروحيّة والنفسيّة، فالشيء الوحيد الذي يطرح في هذه المدرسة ويتم الدفاع عنه هو التوحيد فقط، وفي هذه المدرسة، الله موجود وغيره باطل، لا سبيل في هذه المدرسة للأحاسيس ولا قيمة فيها للنفس.
من هنا يشتبه من يقول: إن المسألة التي كانت حاكمة في واقعة عاشوراء هي مسألة العشق؛ لأن العشق بدون تعقّل يعني الجنون، والعشق الذي يكون منفصلًا عن مباني الشرع فهو يعني اللاأبالية والنرجسيّة، فالعشق البعيد عن الموازين والمباني يعني الهوس والتمرّد. إن العشق الذي له قيمة في مدرسة الإمام الحسين عليه السلام هو العشق الذي يقوم على أساس الفهم والإدراك والتشخيص والتعقّل والدراية، لا القائم على أساس الهوى والهوس وغلبة الأحاسيس. فجميع أصحاب سيد الشهداء في واقعة كربلاء كانوا عاشقين للإمام، لكن عشقهم هذا ليس عشقاً مجازيّاً وصوريّاً، وليس عشقاً نابعاً من الإحساس والعاطفة، فذاك عشق لا فائدة منه وعملة لا قيمة لها.
إن عشق الأصحاب كان عشقاً نابعاً من الفهم والنظر الدقيق، وكان عشقاً على طبق الموازين والمباني العقلائيّة والشرعيّة، كان عشقاً للحقيقة النورانيّة والعظمة المطلقة والنفس القدسيّة، كان عشقاً لمبدأ الوجود والبهاء الأتم والمجلى الأكمل والأوسع لحضرة الباري تعالى. فأين هذا العشق من العشق الذي يتم الحديث عنه في المجالس والمحافل؟ وأين هذا من العشق الذي يتغيّر ويتبدّل إلى حالةٍ من اليأس والنفور من المعشوق بأدنى تغيير في التوقّعات أو تبدّل فيما يُنتظر منه، وأين هذا من العشق الذي يقول فيه الحبيب لحبيبه لو قُطعت ألف مرّة وأنا حيّ على أن أترك حبّك لن أفعل؟! فهذا العشق مبني
على أساس الفهم واليقين وإدراك الحقيقة، وذاك العشق مبني على أساس الجاذبيّات الفارغة والاعتبارات والدعايات والإشاعات وسائر الأمور التي لا تعتمد على أساس. أنظر كم هو التفاوت بين هذين العشقين! لذا نرى أن مجريات حادثة كربلاء قد بُيّنت على لسان أولياء الحق بشكل متمايز عن بيانهم لسائر المجريات والأحداث الأخرى.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الحادثة:
مناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم .
لا يمكن للعقل أن يمنع الإنسان من التحرّك في وادي العشق، كما لا يمكن للعشق الواقعي أن ينفصل عن المباني والموازين العقليّة، فالعقل يدعو الإنسان إلى التقرّب من الحبيب والفناء فيه، ويتوسّل بأي وسيلة يمكنها أن تساعد للوصول إلى هذا الهدف، ويرى أن كل ما يقرب من الحبيب أمر ممدوح ومجاز، بل وواجب. ويحذر من كل ما يمكن أن يكون عائقاً أمامه وقاطعاً للطريق وحاجزاً عن الدخول في حريم حضرة الحق تعالى.
إن العقل موهبة إلهيّة منحه الله لنا لتصحيح المسير وتطبيق الفكر والعمل على أساس الواقع والحقيقة، وفي النتيجة يدفعنا للتحرّك نحو المقصد الأقصى والغاية القصوى وفعليّة جميع الاستعدادات البشريّة الكامنة في الإنسان والوصول إلى الكمال المطلوب منه. وهذا العقل بعينه يدعو الإنسان إلى سيد الشهداء، ويدعوه للفناء به والتسليم إليه وتفويض جميع شراشر وجوده وآثار حياته إليه. فهذا العقل لا يمكن أن يكون حاجزاً في طريق الوصول إلى هذا الإمام ومانعاً منه، كي يأتي الإنسان ويستفيد من قدرة العشق والمحبّة للوصل إلى هذا الهدف. وإذا كان هناك عقل يريد أن يكون مانعاً من الوصول إلى هذا الهدف ويحرم الإنسان من هذه النعمة العظمى، وعائقاً من تحقيق السعادة في الدارين من خلال طرح القضايا وترتيب القياسات، فهو ليس عقلًا بتاتاً بل عبارة عن قوّة واهمة ومتخيّلة أخذت دور العقل في توجيه هذه القياسات. فعلى الإنسان أن يرجع إلى الحقائق المتقنة والمباني الرصينة والأصول الموضوعة للوصول إلى الحقيقة وكُنه القضايا العقلانية، ويستمد منها ويطبّق طريقه وممشاه على الحق والواقع بعيداً عن الوسوسة والتوجيهات النفسيّة، وهنا سوف نصل إلى فهم هذه النكتة، وستتضح لنا علّة ترغيب الأئمّة عليهم السلام وحثّهم على إقامة مجالس العزاء لسيد الشهداء عليه السلام.