النبي هود (ع) القائم
الوصية إلى هود (عليه السلام)
بعد أن استكمل نوحٌ (عليه السلام) أيامه، وانقضت نبوته أنزل الله عليه سبحانه جبرائيل (عليه السلام) يأمره بأن يدفع ميراث النبوة والعلم إلى ابنه سام، وأن يبشر الذين آمنوا معه بنبوة هود(ع) ويأمرهم باتباعه.
وهود(ع) هو ابن عبد الله بن رباح بن خلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح(ع)، وهو من قبيلة يقال لها الخلود، من أوسطهم نسباً وحسباً، وأصبحهم وجهاً في مثل أجسامهم، أبيض بادي العنفقة طويل اللحية، آدم كثير الشعر، وكان أشبه ولد آدم بآدم(عليه السلام).
كان هود مزارعاً يسكن مع قومه عاد في مايعرف اليوم بالأحقاف، في البادية بالدهناء ويبرين وعالج إلى اليمن وحضر موت، وهي اليوم رمال ليس فيها أنيس بعد ذلك العمران والنعيم العظيم.
اتصف هود(عليه السلام) بالوقار والهيبة والرزانة، وسعة الصدر والحلم، كما اتصف بالعقل وعزة النفس، وكان مع هذا وذاك عابداً زاهداً عفيفاً أبياً غيوراً، صلب الإيمان، رحيماً عطوفاً ليناً.
(وإلى عادٍ أخاهم هودا)
كانت قبيلة عاد تسكن كما ذكرنا في الأحقاف باليمن شمالي حضرموت، في أرض يقال لها الشحر في وادٍ يُسمى مغيث، في أخصب بلاد العرب وأكثرها أنهاراً وجنانا.
وكانوا كأنهم النخل الطوال، قد زادهم الله بسطةً في الجسم والقوة، إذ كان الرجل منهم يضرب الجبل فتنهدم منه قطعة، وينزع الصخرة فيقلعها بيده، وكانوا يعبدون الأوثان، وقد اتخذوا لهم أصناماً ثلاثة أموها آلهة، وهي: صمدا وصمودا وهرا.
سميت عاد بذات العماد. كما ورد في القرآن الكريم (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) لأن الله سبحانه كان قد سخر لهم من قطع الجبال والصخور، مايعملون منه العمد والأبنية، وكان لهم من القوة على ذلك والعمل به شيئاً لم يسخِّره لأحد كان قبلهم ولا بعدهم.
ولما رأوا قوتهم ومقدرتهم استكبروا بغير الحق، وأصابهم الصلف والغرور، وجحدوا آيات الله وكفروا نعمه: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا من أشدُّ منا قوة).
وأخذ أبناءُ عاد والمترفين منهم خاصة، يبنون في كل مكان مرتفع من الأرض بناءً عالياً يطلعون منه على الناس ليسخروا منهم ويهزأوا بهم.
وكان هود (عليه السلام) قد أتم الأربعين من عمره، فبعثه الله فيهم، نبياً وهادياً إلى سبيله ومرشداً، وهو منهم أوّل نبيّ عربي يبعثه الله، فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام، وإلى عدم الاستعلاء في الأرض والفساد، قائلاً لهم: (ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون)،(أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأموالٍ وبنين، وجنات وعيون).
ولكن عاداً راحوا يسخرون من هود (ع)، ويقولون له: أتريد منا أن نترك آلهتنا صمدا وصمودا وهرا التي كان يعبدها آباؤنا قبلنا ونعبد إلهك الواحد الذي لانراه؟!
(قالوا أجئتنا لنعبد الله وحدة ونذر ماكان يعبد آباؤنا).
هذا أمرٌ غريب بعيد، لن نؤمن لك، وأنت واحدٌ منا، ولايمكنك أن تقنعنا أو تجبرنا على ذلك، وقال بعضهم: (ماهذا إلاّ بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون) وقالوا: (إجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا)؟... (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين).
وأخذ هود(ع) يسرد لهم الأدلة والبراهين، على صدقه وعلى وحدانية الله، وعلى أن تلك الأصنام التي يعبدونها لاتنفعهم، وراح يذكرهم بأن ما ينعمون به من القوة والحياة الكريمة، إنما هو من اله خالقهم ومدبر شؤونهم، وأنه سيزيدهم إن هو آمنوا وشكروا، وتركوا الإفساد في الأرض والاستكبار، وأن الله سيغضب عليهم ويعاقبهم إن هم أصروا على ماهم عليه من عبادة الأصنام والإفساد والسخرية بالناس والهزء منهم: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).
واستكبر قوم عاد وأصروا على كفرهم وقالوا: (ياهود ماجئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن وقولك ومانحن لك بمؤمنين) أما هود(ع) فاستمر في دعوته ورفض عبادة الأصنام رغم أنهم خرفوه وهددوه، ولم تفتر له همة وقال لهم: (إني أشهد الله واشهدوا أني برئٌ مما تشركون.. فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولاتضرونه شيئاً).
وتابع هود(ع) دعوته لهم ووعده وعيده، ووعظهم وتذكيرهم أنهم بعد الموت سيبعثون من جديد، ليحاسبهم الله على كل ماكانوا يفعلونه، من الإثم والعدوان، مذكراً إياهم بأنه لايطلب منهم أجراً على مايقوم به، وأنه أمين على رسالة بعثه بها الله إليهم ليبلغهم إياها، وأنه لهم من الناصحين إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلا على رب العالمين.. إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم).
ولم تنفع مع قوم عاد كل محاولات هود(ع) لإنقاذهم ونقلهم من الضلالة والجهل، من عبادة الأصنام والفساد، إلى الهدى والرشاد والصلاح، إلى عبادة الله الواحد الأحد وطاعته. ليس هذا فحسب بل إنّ بعض السفهاء منهم راح يهزأ بهود(ع) ويستخف قومه قائلاً لهم: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنّكم إذاً لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمعوثين، إن هو إلاّ رجلٌ افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين).
وقال بعضهم: إن هوداً خالف آلهتنا، وترك عبادتها وقد أصابته الآلهة بالجنون لأجل ذلك: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} وأصروا على تكذيبه وعدم الإيمان بما جاءهم به وهو يكرر قوله: (ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي، وأنا لكم ناصح أمين)،(ياقوم لاأسألكم عليه أجراً إن أجري إلاّ على الذي فطرني أفلا تعقلون).
بطش عادٍ بهود (عليه السلام)
فلما رأوا ثباته في دعوته، واستمراره فيها بطشوا به وخنقوه وتركوه كالميت، فبقي يومه وليلته مغشياً عليه، فلما أفاق ناجى ربه قائلاً: يارب إني قد عملت وقد ترى مافعل بي قومي، فجاءه جبريل(عليه السلام) فقال: ياهود إنّ الله تعالى يأمرك ألاّ تفتر عن دعوتهم، وقد وعدك ربك أن يلقي الرعب في قلوبهم فلا يقدرون على ضربك مرة ثانية، فأتاهم هود وقال لهم: ياقوم قد تجبرتم واستكبرتم في الأرض بغير الحق وأكثرتم الفساد، أفلا تنتهون. فقالوا ياهود أترك هذا القول، فإنا إن بطشنا بك الثانية نسيت الأولى، فقال (عليه السلام): دعوا هذا الفساد والغرور، وتوبوا إلى الله واعبدوه، فما كان منهم إلاّ أن حاولوا ضربه مرة ثانية فلبسهم الرعب فاجتمعوا بقوتهم، فصاح بهم هود (عليه السلام) صيحة فسقطوا لوجوههم، ثم قال لهم: ياقوم لقد تماديتم في الكفر كما تمادى قوم نوح من قبل وحق لي أن أدعو عليكم كما دعا نوح (عليه السلام) على قومه.
ورغم ما أسابهم من الخوف والرعب، استمروا في طغيانهم وغرورهم، وقالوا: ياهود إن آلهة قوم نوح كانوا ضعفاء وآلهتنا أقوياء مثلنا وقد رأيت قوة أجسامنا وشدتنا وبطشنا.
دعوة هودٍ وعذاب عاد
وبعد سبعمائة وستين عاماً يئس هود(ع) من اهتداء قوم عاد، وهم في كل مرة يكذبونه ويقولون له: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)، فرفع يديه بالدعاء إلى ربه قائلاً رب انصرني بما كذبون. قال عما قليل ليصبحن نادمين ).
وبدأ العذاب الذي وعدهم هود، فكفت السماء عنهم سبع سنين بأمر الله، حتى قحطوا وأجدبت الأرض ثلاث سنين، ولم يرجعوا عن كفرهم واستكبارهم وغرورهم، وبعثوا وفداً منهم إلى جبال مكة، وكانوا لايعرفون موضع الكعبة، فمضوا واستسقوا فرفعت لهم ثلاث سحابات، فقالوا عن الأولى: هذه حفا ليس فيها ماء، وقالوا عن الثانية: هذه فاجيا ماؤها قليل، واختاروا الثالثة وكانوا يظنون أن فيها مطراً كثيراً، بينما كانت في الواقع هي التي تحمل لهم العذاب، وقد ساقتها الريح نحو أوديتهم، (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو مااستعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئٍ بأمر ربها)، ورأت امرأة منهم يقال لها "مهد" تلك الريح، فصاحت وأغمي عليها، فلما أفاقت وقد اجتمعوا عليها قالوا لها: مارأيت يامهد؟ قالت: رايتُ ريحاً فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها.
وبدأت الريحٍ تقتل من تصادفه منهم، وهم يرون وينظرون، فراحوا يسألون هوداً (ع) عن سرِّ تلك الريح: إذا أقبلت أقبل معها خلق كثير كأمثال الأباعر، معها أعمدة، هم الذين يفعلون بنا الأفاعيل؟ فقال لهم (ع): أولئك الملائكة. فقالوا أترى ربك أن يغلبنا عليهم إن نحن آمنا به؟ فقال(ع): إن الله تعالى لايغلب أهل المعاصي على أهل الطاعة، قالوا أو ننجو إن نحن آمنا؟ قال: نعم، قال زعيمهم وكان اسمه الخلجان: وكيف لي بالرجال الذين هلكوا؟ قال هود(ع) يبدلك الله بهم خيراً منهم، فقال الخلجان: لاخير في الحياة بعدهم، فكان مصيره كمصيرهم.
هلاك عادٍ ونجاة المؤمنين
أما هود(ع) ومن آمن معه من أحفاد سام بن نوح(ع) فقد لجأوا إلى حضيرة في مكة، مايصيبهم إلاّ ماتلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس، وبدأت الريح تدمغ عاداً بالحجارة، فراحوا يختبئون في القصور والبيوت، وفي المغاور والكهوف، ولكن الريح كانت تدمر عليهم قصورهم والبيوت وتطحنها طحنا حتى تحولها إلى رمال، وتدخل عليهم المغاور والكهوف فتلفهم رجالاً ونساءً وتخرجهم وترفعهم صعداً في الجو ثم ترمي بهم فيقعون على رؤوسهم منكسين فتقتلهم: (وقالوا من أشد منا قوة، أولم يروا أنّ الله الذي خلقهم أشد منهم قوة، وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لاينصرون).
وهكذا استمرت تلك الريح عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتالية: (ريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فترى القوم كأنهم أعجاز نخل خاوية).
ويقال إن تلك الريح سميت بالريح العقيم، لأنها عقمت عن الرحمة، وتلقحت بالعذاب، وأنها هي التي تسميها العرب بأيام العجوز، لأنّ عجوزاً اختبأت في أحد الدهاليز فدخلت إليها تلك الريح وأخرجتها وأهلكتها وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ماتذر من شئ أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم)،(فأصبحوا لايرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين)،(فأصبحوا لايرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم الظالمين)،(فهل ترى لهم من باقية)،(فكيف كان عذابي ونذر)،( إن في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين وإنّ ربك لهو العزيز الرحيم).
أما هود(ع) ومن آمن معه وصدق برسالته وعمل بها، فقد أنجاهم الله برحمته وقدرته: {فأنجيناه والذين آمنوا معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} {ألا بعداً لعادٍ قوم هود}.
وفاة هود (عليه السلام) وقبره
تروي كتب السيرة والتاريخ، أن هوداً(ع) بعدما أصاب عاداً ما أصابهم، انتقل إلى العراق وعاش هناك إلى أن وافاه الأجل وحانت منيته وانقضت أيامه، وأنه (ع) دفن هناك في وادي السلام عند مرقد الإمام علي(ع) وقبري آدم ونوح(ع) وإلى جانبه مرقد النبي صالح(ع) الذي جاء بعده إلى قبيلة ثمود.
ويروي المؤرخون وأصحاب السير أن أمير المؤمنين علياً(ع) سأل شيخاً من أهل مهرة: مايقول قومك في الجبل الذي عليه الصومعة قرب مهرة؟ فقال: يقولون هو قبر ساحر. فقال (ع) كذبوا أنا أعلم به منهم، ذلك هو قبر هود(ع).
ومهما يكن من أمر فإنَّ هوداً(ع) قد بلغ رسالات ربه، وقصد إلى حج بيت الله الحرام ماراً بوادي عسفان كما جاء ذلك في حديث عن رسول الله محمد(ص): "لقد مرّ بهذا الوادي [يعني عسفان] نوح وهود وإبراهيم... يحجون البيت العتيق".
ويُذكر أيضاً أنّ هوداً(ع) عندما أحسّ بدنو أجله، أوصى من بعده، وبشر قومه بنبي الله صالح(ع) يأتي بعده، وأمرهم باتباعه والإيمان به.
فسلام الله على هود إنّه كان من المرسلين.
والحمد لله رب العالمين.